الوصايا العشر في سورة الأنعام !!
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الوصايا العشر في سورة الأنعام !!
الوصايا العشر
في
سورة الأنعام !!قال تعالى :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿١٥٢﴾
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٥٣﴾"
سورة الأنعام
وهذه السورة التي أنزلت على المصطفى بمكة – فهي سورة مكية – كرس الحديث فيها عن قضية واحدة لا تتغير ،
لكن الأسلوب في عرضها لا يتكرر ، وهي قضية التوحيد ، قضية العقيدة ، وهي القضية الكبرى ، وهي القاعدة الأساسية لهذا الدين ،
فالعقيدة هي المدخل للإسلام ، وهي محوره والروح التي تسري فيه ،
وقد جاءت هذه العقيدة في سورة موجزة :
"قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّـهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾"
فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا البناء العظيم ، وهي الأصل والأساس ، وعبادة الله هي البناء القائم على أساس العقيدة ؛
لأن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ؛ يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيه ، وفيما أمر به وما نهى عنه .
ولقد مضى على النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة ، في تقرير هذه القضية الكبرى ،
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ،
إلا بعد أن علم الله أنها قد استقرت في الأذهان ، واستوفت ما تستحقه من البيان ،
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها ، منذ اليوم الأول للرسالة ،
وأن يبدأ رسول الله أولى خطواته في الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ،
وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويُعَبِّدُهُم له دون سواه ، وأن يرد السلطان كله إلى الله ،
فهو السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة ،
والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان .
ولنأت على ذكر نماذج من سورة الأنعام ، التي عنيت بشأن العقيدة وتركيزها ، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه :
"الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿١﴾
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿٢﴾
وَهُوَ اللَّـهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿٣﴾"
وقال تعالى :
"وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٣﴾
قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٤﴾"
وقال تعالى :
"وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٧﴾
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١٨﴾"
وقال تعالى :
"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿٦٥﴾"
وقال تعالى :
"إِنَّ اللَّـهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿٩٥﴾
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿٩٦﴾
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٩٧﴾
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴿٩٨﴾"
وقال تعالى :
"ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٠٢﴾
لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿١٠٣﴾"
والآيات الثلاث التي تضمنت الوصايا العشر ،
حيث ختمت الآية الأولى بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"،
وختمت الآية الثانية بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" ،
وختمت الآية الثالثة بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .
ولقد جاء التنويه بهذه الآيات وبيان فضلها وسمو منزلتها وعلو قدرها لما روى الحاكم وقال :
صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله :
"أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟"
ثُمَّ تَلَا :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..."
"حَتَّى فَرَغَ مِنْ ثَلَاثِ الْآيَاتِ ، ثُمَّ قَالَ :
"وَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ ، أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا أَدْرَكَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ"
تفسير ابن كثير
وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال :
(لما أمر الله تعالى نبيه ۖ أن يعرض نفسه على قبائل العرب قال أبو بكر :
أَوَقَدْ بَلَغَكُمْ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَهَا هُوَ ذَا،
فقال مفروق : قَدْ بَلَغَنَا أَنّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ فَإِلَى مَ تَدْعُو إلَيْهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أَدْعُو إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِلَى أَنْ تُؤْوُونِي ، وَتَنْصُرُونِي ،
فَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللّهِ وَكَذّبَتْ رَسُولَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنْ الْحَقّ وَاَللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ .
فقال مفروق : وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ...} الآية
الأنعام ﴿151﴾
فقال مفروق : وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
النحل ﴿٩٠﴾
فقال مفروق : دَعَوْت وَاَللّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَاَللّهِ لَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذّبُوك ، وَظَاهَرُوا عَلَيْك،
وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة ،
فقال : وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا ، وَصَاحِبُ دِينِنَا،
فقال هانئ : قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ ، وَإِنّي أَرَى أَنّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتّبَاعَنَا إيّاكَ عَلَى دِينِك لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ زَلّةٌ فِي الرّأْيِ وَقِلّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَإِنّمَا تَكُونُ الزّلّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ وَمِنْ وَرَائِنَا قَوْمٌ نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا ، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ)
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث، وذلك هو تأثيرها في النفوس ،
وهذه الآيات أيضاً تمثل نموذجاً فريداً في التربية الحكيمة ، التي يسعد به المجتمع ، ويحي في ظلها الأفراد في أمان واطمئنان ،
ومن يتأمل في هذه الآيات الكريمات ؛ يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه ، علاقة ينال بها السعادة في الدنيا والآخرة ،
ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والرحمة ،
وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ؛
لأن الإسلام يهدف إلى إيجاد جيل يدرك رسالته في هذه الحياة ، إدراكاً واعياً صحيحاً مستنيراً ،
ويؤدي هذه الرسالة بقوة وأمانة ،
يدرك أن لله تعالى عليه حقوقاً فيؤديها بإتقان وإخلاص ،
ويدرك أن لنفسه عليه حقوقاً فيتعهدها بالتهذيب والمحاسبة والتقويم ،
ويدرك أن لمجتمعه عليه حقوقاً ، فيؤدي هذه الحقوق عن رضا وطواعية واختيار ، بأمانة وكفاية ونشاط واستقامة ،
وبذلك تصل الأمم إلى ما تسعى إليه : من عزة ومنعة، ومن غنى وسعادة وأمن واطمئنان .
ومن مفاخر التربية في الإسلام، اتساع دائرتها ، وتنوع مجالاتها ، وسمو توجيهاتها ،
وشمولها لكل جانب من جوانب الحياة الإنسانية.
إنّها تتعهد الإنسان ، سواء كان ذكراً أم أنثى :
بالتقويم والتوجيه ، والتسديد والرعاية ، والترغيب والترهيب ،
منذ خروجه إلى الدنيا إلى أن ينتهي منها ، وتعمل على تسليحه بالفضائل ، وتنفيره من الرذائل .
فهذه الوصايا العشر ، التي يتصدرها أمر الله بالمنع من الشرك ، وتحريمه بصفته الذنب العظيم ، الذي لا يغفر :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾
النساء : ﴿48﴾
وقوله تعالى :
"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"
لقمان ﴿١٣﴾
والشرك لا يصح معه عمل، ولا يستحق المشرك عن عمله الحسن الثواب ، قال تعالى :
"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا"
الفرقان ﴿2٣﴾
الوصية الأولى :
تحريم الشرك :
وإذا جاءت الوصية الأولى بتحريم الشرك ؛ فهي ملزمة بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة ،
ويكون التوحيد شاملاً : لتوحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، توحيداً خالصاً لا تشوبه شائبة .
ومن ينظر في هذه الآيات ؛ يجدها قوام هذا الدين كله ، وهي خلاصة الإسلام ، إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد ، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة بالتكاتف والتآلف ،
وقوام حياة المجتمع بالتكافل والتراحم والتعفف والعفاف والطهارة ، فيما يجري فيه من معاملات ، وفيها قوام حياة الإنسانية ، وما يحيط الحقوق فيها من ضمانات مرتبطة بعهد الله ، كما أنها بدأت بتوحيد الله .
إن الأمور التي جمعتها هذه الآيات الثلاث لهي أمور هائلة ، تصدرتها قضية الدين الأساسية ، قضية العقيدة والتوحيد ،
وإفراد الله بالعبادة والاستسلام لله ، والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك قال تعالى:
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" – لا ما تدعونه أنتم أنه حرمه بزعمكم –
لقد حرم عليكم ربكم الذي له حق الربوبية ، وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية ، فهذا حقه المطلق وموضع سلطانه .
فالباري جل وعلا قد حرم على الناس الشرك ، والقاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ، وترجع إليها التكاليف والفرائض ،
هي الأصل الذي يتعين أن يستقر ويثبت قبل الدخول في الأوامر والنواهي ، وقبل تفصيل التكاليف والفرائض ،
فيتعين على الناس أن يعترفوا بالله رباً وإلهاً ، وحاكماً ومتصرفاً ، في كل أحوالهم :
يؤمنون بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد ۖ نبياً ورسولاً .
إنها دعوة لتنقية الضمير من شوائب الشرك ، وتنقية العقل من شوائب الخرافة ،
وتنقية المجتمع من عادات وتقاليد الجاهلية ، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
إن الشرك في كل صوره وأشكاله ، هو المحرم الأول ؛ لأنه يجر إلى كل محرم ،
وهو المنكر الأول الذي يتعين حشد كل الطاقات لإزالته ؛ حتى يعترف الناس أنه لا إله إلا الله ، ولا حاكم ولا مشرع إلا هو سبحانه وتعالى ،
وأن التوحيد على إطلاقه هو القاعدة الأولى ، التي لا يغني عنها شيء آخر من عبادة أو عمل .
الوصية الثانية :
"وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" :
هذا أمر صريح ظاهر في إلزام الأولاد ببر الوالدين ، وإكرامهما والإحسان إليهما إحساناً مطلقاً ، لا يشوبه قصور أو تقصير ، ولا يحوم حوله ضيق أو تضجر ، أو شعور بالتثاقل في أداء هذا الحق ،
ولاشك أن هذا من أسمى أنواع التربية ، ومما يدل على سمو حق الوالديْن ورفعة منزلتهما ؛ أن جعل الله سبحانه وتعالى الإحسان إليهما مقترناً بحقه في الطاعة والعبادة ،
وقد اقترن حق الوالديْن بحق الله في جملة من الآيات ، ففي سورة البقرة :
"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"﴿٨٣﴾
وفي سورة النساء : "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"﴿٣٦﴾
وهنا في سورة الأنعام :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" ﴿١٥١﴾
وفي سورة الإسراء :
"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿٢٤﴾"
وفي سورة لقمان :
"وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾"
ولهذه الآيات مغزاها ودلالتها على عظم حق الوالدين ، وكيف أنه بلغ من علو المنزلة أن جاء مقترناً بحق الله تبارك وتعالى ،
وهذا للإشعار بسمو منزلة الوالدين ورفعة قدرهما ، وللتنبيه إلى معنى واحد يجمع بين الوصيتين ، وهو أن المنعم يجب أن يشكر ،
فالله تعالى هو الخالق المنعم ؛ فيجب أن يشكر ، ويفرد بالعبادة والطاعة ،
والوالدان هما السبب المباشر لوجود الإنسان في هذه الحياة ؛ فيجب عليه أن يشكرهما ، وأن يحسن إليهما إحساناً لا يتقيد بما هو حق أو عدل ، بل يتجاوز ذلك ليكون تعاملاً كريماً ،
"وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا"
لم يقل تعالى: (قولا حقا)، ولا (قولا عدلا)،
وإنما وصفه بالكريم ، والكرم فيض فوق الحق وفوق العدل .
ويلاحظ كذلك أن المأمور بالإحسان هم الأبناء ، بينما لانجد آية واحدة تأمر الآباء بالإحسان إلى أبنائهم ، ولعل السر في ذلك هو :
لفت الأنظار إلى أن إحسان الآباء إلى الأبناء أمر محقق ، وواقع منهم بمقتضى فِطْرَةٍ فطرهم الله عليها ،
وأن الشأن أنه لا يحتاج إلى حث على ذلك ، أو دعوة إليه ، وهذا أسمى وأعلى وأصدق ألوان التربية السليمة التي يؤيدها الواقع ،
وبهذا المنهج القويم والتربية الحكيمة تسعد المجتمعات ؛ لأنه متى استقامت العلاقات، وصلحت الأحوال ، وقويت الصلات بين الآباء والأولاد ؛
ظهر أثر ذلك في الأفراد والأمم ، وأصبح مجتمع الإسلام صورة مشرقة ، وقدوة للمجتمعات الأخرى.
الوصية الثالثة :
"وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ"
والإملاق : شدة الفقر والفاقة ،
يقال : أملق الرجل إملاقاً ، إذا احتاج وافتقر ،
أي : ولا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر ، فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم ،
ومن الجرم الواضح والظلم الفادح الاعتداء على حق هؤلاء الصغار في الحياة ، وقد ورد النهي عن قتل الأولاد هنا بقوله تعالى :
"وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ " ﴿١٥١﴾ الأنعام
وفي سورة الإسراء
"وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴿٣١﴾"
لأن الحديث هنا في سورة الأنعام عن فقر واقع فعلاً ، فكأنه سبحانه يقول لهم : لا تقتلوهم لفقر واقع فيكم أيها الآباء ، ولذا قال سبحانه: "نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ"
فجعل الرزق للآباء ابتداء ؛ لأن الفقر الذي يدفعهم لقتل أولادهم حاصل لهم فعلاً ،
أما في سورة الإسراء فالفقر ليس واقعاً ، وإنما هو أمر متوقع لذا قال : "خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ"،
أي : خوفاً من فقر متوقع وليس موجوداً فعلاً ، ولكنه متوهم لوجود الأولاد ،
ولهذا جاء التعبير الإلهي مطمئناً للآباء وأنه سبحانه قد تكفل برزق الأولاد ، كما تكفل برزق الآباء وبيده خزائن السماوات والأرض ، وقد تعهد برزق الجميع :
"وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿٦﴾"
هود
وبمثل هذه التربية الحكيمة تغرس الثقة بالله تعالى ، وتنبت الفضائل في النفوس .
ولا ريب أن قتل الأولادد من أعظم الذنوب ، بل قد يأتي بعد الإشراك بالله .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟
قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ "
قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ
قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ "
ثم تلا رسول الله ۖ:
"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴿٦٨﴾ "
الفرقان
الوصية الرابعة :
النهي عن قربان الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وهذا امتداد للوصية بالأسرة التي يتعين تماسكها وتثبيت الود بين أفرادها ، ولما وصاهم الله بالأسرة وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها ،
كما يقوم عليها المجتمع كله ، وهي قاعدة الطهارة والنظافة والعفة ،
فإنه لا يمكن قيام أسرة ، ولا استقامة مجتمع في وحل الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، إنه يتعين تحقق الطهارة والنظافة والعفة .
والفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال ، وأكثر إطلاقاتها على فاحشة الزنا ،
فتخصيص الفواحش هنا بفاحشة الزنا أولى بطبيعة السياق وصيغة الجمع ؛
لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات ، كلها فاحشة مثلها ،
فالتبرج والتهتك والاختلاط المثير والكلمات والإشارات والحركات والإغراء والتزين والاستثارة ، كلها فواحش ،
تسبق وتمهد وتحيط بالفاحشة الكبرى ، "إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً".
والفواحش كلها مما يحطم قوام الأسرة وينخر في جسم الجماعة فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد ويدنس الأعراض ،
ولما كانت الفواحش ذات إغراء وجاذبية وقد يميل لها الطبع ، جاء النهي عن مجرد قربانه ا،
فضلاً عن مواقعتها سداً للذرائع واتقاء للجاذبية التي قد تضعف معها الإرادة ،
ولأن قربان الفواحش قد يؤدي إلى مباشرتها ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وهذا لون حكيم من ألوان التربية الرشيدة والإصلاح القويم ؛
لأنه إذا ورد النهي عن قربان الشيء، فلابد أن ينهى عن مباشرته من باب أولى وأحرى .
وقد تكرر النهي في القرآن الكريم عن قربان ما تميل له النفس ويميل إليه الطبع في مثل قوله تعالى : "وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ" البقرة﴿٣٥﴾
وقوله تعالى: "وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ" البقرة ﴿٢٢٢﴾
وقوله تعالى: " وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٣٢﴾" الإسراء
وقوله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾ "
الأنعام
وقوله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴿٣٤﴾"
الإسراء
فيلاحظ أن كل منهي عنه من شأنه أن تميل النفوس إليه، وتدفع إليه الأهواء والشهوات ،
يأتي النهي عنه بصيغة النهي عن مجرد القربان ؛ للمبالغة في التحذير من الاقتراب ، فضلاً عن مباشرته أو الوقوع فيه .
أما المحرمات التي لا تألفها النفوس ولا تميل إليها ولا تدفع إليها الغرائز والشهوات فيأتي النهي عنها مباشرة ،
كقوله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ" ،
وقوله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ"،
وقوله تعالى: "وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ،
وبمثل هذا الأسلوب الرباني البليغ يربي الله تعالى عباده، ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم .
ولعل من المفيد أن نتذكر في هذا المجال الإجراءات الوقائية التي اتخذها القرآن في مواجهة هذا الانحلال الأخلاقي :
1- الدعوة إلى الزواج :
"وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
النور ﴿٣٢﴾
2- إباحة الزواج شرعاً بزوجة أخرى بشروط معينة :
"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا"
النساء ﴿٣﴾
3- تحريم ارتداء المرأة لأي زي فاضح يشف عن جسمها أو يصف بدنها إلا أن يكون أمام زوجها
وعليها أن ترتدي من اللباس ما جرى به العرف الشريف عند محارمها :
"وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ
وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
النور ﴿٣١﴾
"يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"
الأجزاب ﴿٥٩﴾
4- الأمر بغض البصر أمام مفاتن النساء :
"قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ"
النور ﴿٣٠﴾
5- النهي عن دخول بيوت الآخرين دون استئذان أهلها :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٢٧﴾
فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿٢٨﴾"
النور
ومما يدل على بشاعة جريمة الزنا وفظاعته أن تحدَّث القرآن عن هذا الفساد الخلقي وكأنه نوع من القتل المعجل ،
ومن ثم فقد ورد في القرآن الحديث عن الزنا بين نوعين من أنواع القتل ، أو مقترناً بالنهي عن الشرك والقتل ،
ففي سورة الأنعام يرد ذكر الفواحش بعد النهي عن قتل الأولاد وقبل النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ،
وفي سورة الإسراء جاء النهي عن قتل الأولاد في الآية (31) ،
والنهي عن قربان الزنا في الآية التي تليها (32) ، وفي الآية (33) النهي عن قتل النفس ، وقال تعالى :
"وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ"
الفرقان ﴿٦٨﴾
وأسلوب القرآن الكريم في تقبيح الزنا والتنفير منه يدل على أن هذه الجريمة تؤدي إلى شر مستطير ،
فهي تلوث العرض ، وتدنس الفراش ، وتفسد النسل ، وتلحق العار والخسارة في الدنيا والآخرة .
فما ظهر الزنا في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون ، وفشت فيهم الأمراض التي لم تعرف فيمن قبلهم ، على أن المرأة إذا حملت من السفاح فإما أن تقتل الولد ؛ فتزهق نفساً بغير حق ،
وإما أن تلحقه بزوجها وتثبت له نسباً باطلاً وتثبت له محرمية مزيفة ، وتجعله يرث مالاً حراماً إلى غير ذلك من الشرور والمفاسد التي قد تصيب المجتمع بالكثير من الكوارث ؛
الوصية الخامسة :
النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
لقد جاء النهي عن هذه المنكرات الواردة في الآية متوالياً ومتتابعاً ؛ لأن كلاً منها جريمة قتل من نوع ما، بل إنها جرائم قتل في الحقيقة.
فالجريمة الأولى : الشرك بالله فهي قتل للفطرة.
والثانية : قتل الأولاد وهي تحطيم للأسرة.
والثالثة : الزنا جريمة قتل للجماعة.
والرابعة : جريمة قتل للنفس المفردة.
فلا يجوز إذاً قتل النفس التي حرم الله قتلها في حال من الأحوال، إلا في حال فعلها لشيء يوجب قتلها ،
فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ۖ: :
"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"
متفق عليه
وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بنيان بناه الله تعالى، فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق ،
وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم الإنساني، ويعتبر من اعتدى على نفس واحدة فكأنما اعتدى على الناس جميعاً، قال تعالى :
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"
المائدة ﴿٣٢﴾
وبهذه الأوامر والنواهي :
تصان الدماء، وتحترم الأعراض ، ويسود الأمان والاطمئنان بين الناس ؛
فـ"كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه"،
"والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
ومن محاسن هذه الشريعة أن اعتبرت المحافظة على الضروريات الخمس :
حفظ الدين ، حفظ النفس ، حفظ النسل والعرض ، حفظ العقل ، حفظ المال ،
فهذه الأمور قد تعين صيانتها ويحرم المساس بها .
ويأتي في ختام هذه الوصايا الخمس قول الله تعالى :
"ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"،
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله ربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس وعقولهم :
"إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأِوْلِي النُّهَى"
طه ﴿٥٤﴾
الوصية السادسة :
"وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"
تصدرت الآية الثانية والخمسين بعد المائة من السورة نفسها ، قال الله تعالى :
"وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"
لقد شاء الله تبارك وتعالى واقتضت حكمته أن يأتي هذا الدين الخاتم على يد يتيم يكون هو النبي الخاتم ،
هذا اليتيم الكريم قد عهد الله إليه بأشرف مهمة في الوجود عندما شرفه بإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة ،
وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي منه هذا التوجيه الوارد في الآية .
واليتيم ضعيف في الجماعة بفقده الوالد الحاني والمربي ، ومن ثم تقع مسؤولية حمايته وكفالته على المجتمع المسلم ، على أساس التكافل الاجتماعي الذي جعلته الشريعة قاعدة نظامه الاجتماعي .
ولقد كان اليتيم يعاني من الضياع والتشرد والاستغلال في المجتمع الجاهلي ، حتى جاء دين الإسلام فأنقذه من هذا الضياع ورتب له حقوقاً يتعين صيانتها ،
ومن حقوقه حفظ أمواله وتنميتها ، وعدم قربانها إلا بما يصلحها ،
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم ؛ حتى يسلمه له كاملاً نامياً ،
وقوله تعالى : "حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ" ليس غاية للنهي ،
إذ ليس المعنى إذا بلغ اليتيم سن الرشد فاقربوا ماله ، إنما المعنى أنهاكم – أيها الأولياء والأوصياء – عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أنفع له ،
وعليكم أن تستمروا على ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده ، فإذ بلغ رشده فسلموا إليه ماله ليتصرف فيه التصرف السليم .
فالنهي في الآية ليس عن أكل مال اليتيم ، بل عن مجرد القرب منه ،
وفي ظل قاعدة التكافل الوارفة الظلال ، عني الإسلام باليتيم وأمواله ؛ فدعانا إلى حسن استثمار أموال اليتيم للإنفاق من عائدها عليه ، قال تعالى :
"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا"
النساء ﴿٥﴾
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
"من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"
رواه الدارقطني والبيهقي
ويتعين حسن تربية اليتيم وتعليمه وتدريبه على إدارة أمواله قبل دفعها إليه ، قال تعالى :
"وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا"
النساء ﴿٦﴾
فعلى الولي أن يسلم المال لليتيم نامياً كاملاً عند بلوغه أشده ، واكتمال قوته البدنية والعقلية ؛
ليكون قادراً على حفظ ماله ، ويحسن القيام عليه، وبذلك يكون اليتيم قد استوفى حقه ، وحصل على ماله كاملاً ،
مع ما تحقق له من الكسب والربح نتيجة حسن تصرف الولي وقيامه على المال بما يصلحه ،
وبهذا التصرف الحكيم ، لا يكون اليتيم هو من فقد أبويه أو أحدهما في المجتمع المسلم الرشيد ؛
لأن المجتمع الإيماني ، اليتيم فيه مكفول الحق ، فقد أباه فكان له من المؤمنين آباء ، وفقد أمه فكان له من المؤمنات أمهات .
إنما اليتيم من لم يحظ بكفالة أبيه ، وينعم برعايته ، ويستفيد من مصاحبته والحوار معه ، ولم ينعم بحنان أمه وشفقتها وعطفها :
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أباً مشغولا
أحمد شوقي
وقد أولت شريعة الإسلام عنايتها بالأيتام ، من تدبير شؤونهم ، ورعاية مصالحهم ،
وليس أدل على ذلك مما ذكره الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، حيث تحدث عن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم ،
كلها تدعوا إلى رعايتهم ، والحفاظ على أموالهم ، والسهر على مصالحهم ،
بل وتشدد النكير على من تسول له نفسه أن يعتدي على أموالهم ، أو يأكل شيئاً من حقوقهم ، قال تعالى :
"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"
النساء ﴿١٠﴾
الوصية السابعة :
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"
وهذه المبادلات التجارية بين الناس ، في حدود الطاقة ، وحسن التصرف والإنصاف ، وسياق الوصايا في الآيات يربطها بالعقيدة ، والموصي والآمر هو الله جل وعلا ،
والمعنى : وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون ، أو لغيركم فيما تبيعون ،
فهو أمر من الله تعالى لعباده بإقامة العدل حال التعامل :
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"
الإسراء ﴿٣٥﴾
فيتعين أن يعطى صاحب الحق حقه من غير نقص ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير زيادة .
وهذه الوصية تمثل مبدأ العدل في التعامل، والتعادل بين صاحب الحق ومن له الحق ، وحال الناس لا تستقيم إلا بالتعامل وتبادل المنافع .
والكيل والوزن هما من أظهر الوسائل في ذلك ، فلابد أن يكونا منضبطين وقائمين على القسط والعدل ،
وقوله تعالى : "لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"، جاءت عقب الأمر بايفاء الكيل والوزن بالعدل ،
ولكن بقدر الطاقة للدلالة على الترخيص فيما خرج عن الوسع والقدرة ؛ لبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج ؛
وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة والتبادل ، بل الشأن فيه أن يقبل اليسير من الغبن في جانب البائع ، أو في جانب المشتري ،
وهذه الوصية تجمع في ثناياها بين الدقة والسماحة ، وبين الضبط ورفع الحرج .
في
سورة الأنعام !!قال تعالى :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿١٥٢﴾
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٥٣﴾"
سورة الأنعام
وهذه السورة التي أنزلت على المصطفى بمكة – فهي سورة مكية – كرس الحديث فيها عن قضية واحدة لا تتغير ،
لكن الأسلوب في عرضها لا يتكرر ، وهي قضية التوحيد ، قضية العقيدة ، وهي القضية الكبرى ، وهي القاعدة الأساسية لهذا الدين ،
فالعقيدة هي المدخل للإسلام ، وهي محوره والروح التي تسري فيه ،
وقد جاءت هذه العقيدة في سورة موجزة :
"قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّـهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾"
فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا البناء العظيم ، وهي الأصل والأساس ، وعبادة الله هي البناء القائم على أساس العقيدة ؛
لأن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ؛ يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيه ، وفيما أمر به وما نهى عنه .
ولقد مضى على النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة ، في تقرير هذه القضية الكبرى ،
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ،
إلا بعد أن علم الله أنها قد استقرت في الأذهان ، واستوفت ما تستحقه من البيان ،
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها ، منذ اليوم الأول للرسالة ،
وأن يبدأ رسول الله أولى خطواته في الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ،
وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويُعَبِّدُهُم له دون سواه ، وأن يرد السلطان كله إلى الله ،
فهو السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة ،
والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان .
ولنأت على ذكر نماذج من سورة الأنعام ، التي عنيت بشأن العقيدة وتركيزها ، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه :
"الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿١﴾
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿٢﴾
وَهُوَ اللَّـهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿٣﴾"
وقال تعالى :
"وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٣﴾
قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٤﴾"
وقال تعالى :
"وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٧﴾
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١٨﴾"
وقال تعالى :
"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿٦٥﴾"
وقال تعالى :
"إِنَّ اللَّـهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿٩٥﴾
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿٩٦﴾
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٩٧﴾
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴿٩٨﴾"
وقال تعالى :
"ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٠٢﴾
لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿١٠٣﴾"
والآيات الثلاث التي تضمنت الوصايا العشر ،
حيث ختمت الآية الأولى بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"،
وختمت الآية الثانية بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" ،
وختمت الآية الثالثة بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .
ولقد جاء التنويه بهذه الآيات وبيان فضلها وسمو منزلتها وعلو قدرها لما روى الحاكم وقال :
صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله :
"أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟"
ثُمَّ تَلَا :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..."
"حَتَّى فَرَغَ مِنْ ثَلَاثِ الْآيَاتِ ، ثُمَّ قَالَ :
"وَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ ، أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا أَدْرَكَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ"
تفسير ابن كثير
وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال :
(لما أمر الله تعالى نبيه ۖ أن يعرض نفسه على قبائل العرب قال أبو بكر :
أَوَقَدْ بَلَغَكُمْ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَهَا هُوَ ذَا،
فقال مفروق : قَدْ بَلَغَنَا أَنّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ فَإِلَى مَ تَدْعُو إلَيْهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أَدْعُو إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِلَى أَنْ تُؤْوُونِي ، وَتَنْصُرُونِي ،
فَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللّهِ وَكَذّبَتْ رَسُولَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنْ الْحَقّ وَاَللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ .
فقال مفروق : وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ...} الآية
الأنعام ﴿151﴾
فقال مفروق : وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
النحل ﴿٩٠﴾
فقال مفروق : دَعَوْت وَاَللّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَاَللّهِ لَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذّبُوك ، وَظَاهَرُوا عَلَيْك،
وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة ،
فقال : وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا ، وَصَاحِبُ دِينِنَا،
فقال هانئ : قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ ، وَإِنّي أَرَى أَنّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتّبَاعَنَا إيّاكَ عَلَى دِينِك لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ زَلّةٌ فِي الرّأْيِ وَقِلّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَإِنّمَا تَكُونُ الزّلّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ وَمِنْ وَرَائِنَا قَوْمٌ نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا ، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ)
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث، وذلك هو تأثيرها في النفوس ،
وهذه الآيات أيضاً تمثل نموذجاً فريداً في التربية الحكيمة ، التي يسعد به المجتمع ، ويحي في ظلها الأفراد في أمان واطمئنان ،
ومن يتأمل في هذه الآيات الكريمات ؛ يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه ، علاقة ينال بها السعادة في الدنيا والآخرة ،
ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والرحمة ،
وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ؛
لأن الإسلام يهدف إلى إيجاد جيل يدرك رسالته في هذه الحياة ، إدراكاً واعياً صحيحاً مستنيراً ،
ويؤدي هذه الرسالة بقوة وأمانة ،
يدرك أن لله تعالى عليه حقوقاً فيؤديها بإتقان وإخلاص ،
ويدرك أن لنفسه عليه حقوقاً فيتعهدها بالتهذيب والمحاسبة والتقويم ،
ويدرك أن لمجتمعه عليه حقوقاً ، فيؤدي هذه الحقوق عن رضا وطواعية واختيار ، بأمانة وكفاية ونشاط واستقامة ،
وبذلك تصل الأمم إلى ما تسعى إليه : من عزة ومنعة، ومن غنى وسعادة وأمن واطمئنان .
ومن مفاخر التربية في الإسلام، اتساع دائرتها ، وتنوع مجالاتها ، وسمو توجيهاتها ،
وشمولها لكل جانب من جوانب الحياة الإنسانية.
إنّها تتعهد الإنسان ، سواء كان ذكراً أم أنثى :
بالتقويم والتوجيه ، والتسديد والرعاية ، والترغيب والترهيب ،
منذ خروجه إلى الدنيا إلى أن ينتهي منها ، وتعمل على تسليحه بالفضائل ، وتنفيره من الرذائل .
فهذه الوصايا العشر ، التي يتصدرها أمر الله بالمنع من الشرك ، وتحريمه بصفته الذنب العظيم ، الذي لا يغفر :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾
النساء : ﴿48﴾
وقوله تعالى :
"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"
لقمان ﴿١٣﴾
والشرك لا يصح معه عمل، ولا يستحق المشرك عن عمله الحسن الثواب ، قال تعالى :
"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا"
الفرقان ﴿2٣﴾
الوصية الأولى :
تحريم الشرك :
وإذا جاءت الوصية الأولى بتحريم الشرك ؛ فهي ملزمة بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة ،
ويكون التوحيد شاملاً : لتوحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، توحيداً خالصاً لا تشوبه شائبة .
ومن ينظر في هذه الآيات ؛ يجدها قوام هذا الدين كله ، وهي خلاصة الإسلام ، إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد ، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة بالتكاتف والتآلف ،
وقوام حياة المجتمع بالتكافل والتراحم والتعفف والعفاف والطهارة ، فيما يجري فيه من معاملات ، وفيها قوام حياة الإنسانية ، وما يحيط الحقوق فيها من ضمانات مرتبطة بعهد الله ، كما أنها بدأت بتوحيد الله .
إن الأمور التي جمعتها هذه الآيات الثلاث لهي أمور هائلة ، تصدرتها قضية الدين الأساسية ، قضية العقيدة والتوحيد ،
وإفراد الله بالعبادة والاستسلام لله ، والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك قال تعالى:
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" – لا ما تدعونه أنتم أنه حرمه بزعمكم –
لقد حرم عليكم ربكم الذي له حق الربوبية ، وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية ، فهذا حقه المطلق وموضع سلطانه .
فالباري جل وعلا قد حرم على الناس الشرك ، والقاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة ، وترجع إليها التكاليف والفرائض ،
هي الأصل الذي يتعين أن يستقر ويثبت قبل الدخول في الأوامر والنواهي ، وقبل تفصيل التكاليف والفرائض ،
فيتعين على الناس أن يعترفوا بالله رباً وإلهاً ، وحاكماً ومتصرفاً ، في كل أحوالهم :
يؤمنون بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد ۖ نبياً ورسولاً .
إنها دعوة لتنقية الضمير من شوائب الشرك ، وتنقية العقل من شوائب الخرافة ،
وتنقية المجتمع من عادات وتقاليد الجاهلية ، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
إن الشرك في كل صوره وأشكاله ، هو المحرم الأول ؛ لأنه يجر إلى كل محرم ،
وهو المنكر الأول الذي يتعين حشد كل الطاقات لإزالته ؛ حتى يعترف الناس أنه لا إله إلا الله ، ولا حاكم ولا مشرع إلا هو سبحانه وتعالى ،
وأن التوحيد على إطلاقه هو القاعدة الأولى ، التي لا يغني عنها شيء آخر من عبادة أو عمل .
الوصية الثانية :
"وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" :
هذا أمر صريح ظاهر في إلزام الأولاد ببر الوالدين ، وإكرامهما والإحسان إليهما إحساناً مطلقاً ، لا يشوبه قصور أو تقصير ، ولا يحوم حوله ضيق أو تضجر ، أو شعور بالتثاقل في أداء هذا الحق ،
ولاشك أن هذا من أسمى أنواع التربية ، ومما يدل على سمو حق الوالديْن ورفعة منزلتهما ؛ أن جعل الله سبحانه وتعالى الإحسان إليهما مقترناً بحقه في الطاعة والعبادة ،
وقد اقترن حق الوالديْن بحق الله في جملة من الآيات ، ففي سورة البقرة :
"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"﴿٨٣﴾
وفي سورة النساء : "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"﴿٣٦﴾
وهنا في سورة الأنعام :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" ﴿١٥١﴾
وفي سورة الإسراء :
"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿٢٤﴾"
وفي سورة لقمان :
"وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾"
ولهذه الآيات مغزاها ودلالتها على عظم حق الوالدين ، وكيف أنه بلغ من علو المنزلة أن جاء مقترناً بحق الله تبارك وتعالى ،
وهذا للإشعار بسمو منزلة الوالدين ورفعة قدرهما ، وللتنبيه إلى معنى واحد يجمع بين الوصيتين ، وهو أن المنعم يجب أن يشكر ،
فالله تعالى هو الخالق المنعم ؛ فيجب أن يشكر ، ويفرد بالعبادة والطاعة ،
والوالدان هما السبب المباشر لوجود الإنسان في هذه الحياة ؛ فيجب عليه أن يشكرهما ، وأن يحسن إليهما إحساناً لا يتقيد بما هو حق أو عدل ، بل يتجاوز ذلك ليكون تعاملاً كريماً ،
"وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا"
لم يقل تعالى: (قولا حقا)، ولا (قولا عدلا)،
وإنما وصفه بالكريم ، والكرم فيض فوق الحق وفوق العدل .
ويلاحظ كذلك أن المأمور بالإحسان هم الأبناء ، بينما لانجد آية واحدة تأمر الآباء بالإحسان إلى أبنائهم ، ولعل السر في ذلك هو :
لفت الأنظار إلى أن إحسان الآباء إلى الأبناء أمر محقق ، وواقع منهم بمقتضى فِطْرَةٍ فطرهم الله عليها ،
وأن الشأن أنه لا يحتاج إلى حث على ذلك ، أو دعوة إليه ، وهذا أسمى وأعلى وأصدق ألوان التربية السليمة التي يؤيدها الواقع ،
وبهذا المنهج القويم والتربية الحكيمة تسعد المجتمعات ؛ لأنه متى استقامت العلاقات، وصلحت الأحوال ، وقويت الصلات بين الآباء والأولاد ؛
ظهر أثر ذلك في الأفراد والأمم ، وأصبح مجتمع الإسلام صورة مشرقة ، وقدوة للمجتمعات الأخرى.
الوصية الثالثة :
"وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ"
والإملاق : شدة الفقر والفاقة ،
يقال : أملق الرجل إملاقاً ، إذا احتاج وافتقر ،
أي : ولا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر ، فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم ،
ومن الجرم الواضح والظلم الفادح الاعتداء على حق هؤلاء الصغار في الحياة ، وقد ورد النهي عن قتل الأولاد هنا بقوله تعالى :
"وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ " ﴿١٥١﴾ الأنعام
وفي سورة الإسراء
"وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴿٣١﴾"
لأن الحديث هنا في سورة الأنعام عن فقر واقع فعلاً ، فكأنه سبحانه يقول لهم : لا تقتلوهم لفقر واقع فيكم أيها الآباء ، ولذا قال سبحانه: "نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ"
فجعل الرزق للآباء ابتداء ؛ لأن الفقر الذي يدفعهم لقتل أولادهم حاصل لهم فعلاً ،
أما في سورة الإسراء فالفقر ليس واقعاً ، وإنما هو أمر متوقع لذا قال : "خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ"،
أي : خوفاً من فقر متوقع وليس موجوداً فعلاً ، ولكنه متوهم لوجود الأولاد ،
ولهذا جاء التعبير الإلهي مطمئناً للآباء وأنه سبحانه قد تكفل برزق الأولاد ، كما تكفل برزق الآباء وبيده خزائن السماوات والأرض ، وقد تعهد برزق الجميع :
"وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿٦﴾"
هود
وبمثل هذه التربية الحكيمة تغرس الثقة بالله تعالى ، وتنبت الفضائل في النفوس .
ولا ريب أن قتل الأولادد من أعظم الذنوب ، بل قد يأتي بعد الإشراك بالله .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟
قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ "
قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ
قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ "
ثم تلا رسول الله ۖ:
"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴿٦٨﴾ "
الفرقان
الوصية الرابعة :
النهي عن قربان الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وهذا امتداد للوصية بالأسرة التي يتعين تماسكها وتثبيت الود بين أفرادها ، ولما وصاهم الله بالأسرة وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها ،
كما يقوم عليها المجتمع كله ، وهي قاعدة الطهارة والنظافة والعفة ،
فإنه لا يمكن قيام أسرة ، ولا استقامة مجتمع في وحل الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، إنه يتعين تحقق الطهارة والنظافة والعفة .
والفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال ، وأكثر إطلاقاتها على فاحشة الزنا ،
فتخصيص الفواحش هنا بفاحشة الزنا أولى بطبيعة السياق وصيغة الجمع ؛
لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات ، كلها فاحشة مثلها ،
فالتبرج والتهتك والاختلاط المثير والكلمات والإشارات والحركات والإغراء والتزين والاستثارة ، كلها فواحش ،
تسبق وتمهد وتحيط بالفاحشة الكبرى ، "إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً".
والفواحش كلها مما يحطم قوام الأسرة وينخر في جسم الجماعة فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد ويدنس الأعراض ،
ولما كانت الفواحش ذات إغراء وجاذبية وقد يميل لها الطبع ، جاء النهي عن مجرد قربانه ا،
فضلاً عن مواقعتها سداً للذرائع واتقاء للجاذبية التي قد تضعف معها الإرادة ،
ولأن قربان الفواحش قد يؤدي إلى مباشرتها ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وهذا لون حكيم من ألوان التربية الرشيدة والإصلاح القويم ؛
لأنه إذا ورد النهي عن قربان الشيء، فلابد أن ينهى عن مباشرته من باب أولى وأحرى .
وقد تكرر النهي في القرآن الكريم عن قربان ما تميل له النفس ويميل إليه الطبع في مثل قوله تعالى : "وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ" البقرة﴿٣٥﴾
وقوله تعالى: "وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ" البقرة ﴿٢٢٢﴾
وقوله تعالى: " وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٣٢﴾" الإسراء
وقوله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾ "
الأنعام
وقوله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴿٣٤﴾"
الإسراء
فيلاحظ أن كل منهي عنه من شأنه أن تميل النفوس إليه، وتدفع إليه الأهواء والشهوات ،
يأتي النهي عنه بصيغة النهي عن مجرد القربان ؛ للمبالغة في التحذير من الاقتراب ، فضلاً عن مباشرته أو الوقوع فيه .
أما المحرمات التي لا تألفها النفوس ولا تميل إليها ولا تدفع إليها الغرائز والشهوات فيأتي النهي عنها مباشرة ،
كقوله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ" ،
وقوله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ"،
وقوله تعالى: "وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ،
وبمثل هذا الأسلوب الرباني البليغ يربي الله تعالى عباده، ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم .
ولعل من المفيد أن نتذكر في هذا المجال الإجراءات الوقائية التي اتخذها القرآن في مواجهة هذا الانحلال الأخلاقي :
1- الدعوة إلى الزواج :
"وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
النور ﴿٣٢﴾
2- إباحة الزواج شرعاً بزوجة أخرى بشروط معينة :
"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا"
النساء ﴿٣﴾
3- تحريم ارتداء المرأة لأي زي فاضح يشف عن جسمها أو يصف بدنها إلا أن يكون أمام زوجها
وعليها أن ترتدي من اللباس ما جرى به العرف الشريف عند محارمها :
"وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ
وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
النور ﴿٣١﴾
"يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"
الأجزاب ﴿٥٩﴾
4- الأمر بغض البصر أمام مفاتن النساء :
"قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ"
النور ﴿٣٠﴾
5- النهي عن دخول بيوت الآخرين دون استئذان أهلها :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٢٧﴾
فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿٢٨﴾"
النور
ومما يدل على بشاعة جريمة الزنا وفظاعته أن تحدَّث القرآن عن هذا الفساد الخلقي وكأنه نوع من القتل المعجل ،
ومن ثم فقد ورد في القرآن الحديث عن الزنا بين نوعين من أنواع القتل ، أو مقترناً بالنهي عن الشرك والقتل ،
ففي سورة الأنعام يرد ذكر الفواحش بعد النهي عن قتل الأولاد وقبل النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ،
وفي سورة الإسراء جاء النهي عن قتل الأولاد في الآية (31) ،
والنهي عن قربان الزنا في الآية التي تليها (32) ، وفي الآية (33) النهي عن قتل النفس ، وقال تعالى :
"وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ"
الفرقان ﴿٦٨﴾
وأسلوب القرآن الكريم في تقبيح الزنا والتنفير منه يدل على أن هذه الجريمة تؤدي إلى شر مستطير ،
فهي تلوث العرض ، وتدنس الفراش ، وتفسد النسل ، وتلحق العار والخسارة في الدنيا والآخرة .
فما ظهر الزنا في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون ، وفشت فيهم الأمراض التي لم تعرف فيمن قبلهم ، على أن المرأة إذا حملت من السفاح فإما أن تقتل الولد ؛ فتزهق نفساً بغير حق ،
وإما أن تلحقه بزوجها وتثبت له نسباً باطلاً وتثبت له محرمية مزيفة ، وتجعله يرث مالاً حراماً إلى غير ذلك من الشرور والمفاسد التي قد تصيب المجتمع بالكثير من الكوارث ؛
الوصية الخامسة :
النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
لقد جاء النهي عن هذه المنكرات الواردة في الآية متوالياً ومتتابعاً ؛ لأن كلاً منها جريمة قتل من نوع ما، بل إنها جرائم قتل في الحقيقة.
فالجريمة الأولى : الشرك بالله فهي قتل للفطرة.
والثانية : قتل الأولاد وهي تحطيم للأسرة.
والثالثة : الزنا جريمة قتل للجماعة.
والرابعة : جريمة قتل للنفس المفردة.
فلا يجوز إذاً قتل النفس التي حرم الله قتلها في حال من الأحوال، إلا في حال فعلها لشيء يوجب قتلها ،
فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ۖ: :
"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"
متفق عليه
وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بنيان بناه الله تعالى، فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق ،
وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم الإنساني، ويعتبر من اعتدى على نفس واحدة فكأنما اعتدى على الناس جميعاً، قال تعالى :
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"
المائدة ﴿٣٢﴾
وبهذه الأوامر والنواهي :
تصان الدماء، وتحترم الأعراض ، ويسود الأمان والاطمئنان بين الناس ؛
فـ"كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه"،
"والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
ومن محاسن هذه الشريعة أن اعتبرت المحافظة على الضروريات الخمس :
حفظ الدين ، حفظ النفس ، حفظ النسل والعرض ، حفظ العقل ، حفظ المال ،
فهذه الأمور قد تعين صيانتها ويحرم المساس بها .
ويأتي في ختام هذه الوصايا الخمس قول الله تعالى :
"ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"،
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله ربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس وعقولهم :
"إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأِوْلِي النُّهَى"
طه ﴿٥٤﴾
الوصية السادسة :
"وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"
تصدرت الآية الثانية والخمسين بعد المائة من السورة نفسها ، قال الله تعالى :
"وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"
لقد شاء الله تبارك وتعالى واقتضت حكمته أن يأتي هذا الدين الخاتم على يد يتيم يكون هو النبي الخاتم ،
هذا اليتيم الكريم قد عهد الله إليه بأشرف مهمة في الوجود عندما شرفه بإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة ،
وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي منه هذا التوجيه الوارد في الآية .
واليتيم ضعيف في الجماعة بفقده الوالد الحاني والمربي ، ومن ثم تقع مسؤولية حمايته وكفالته على المجتمع المسلم ، على أساس التكافل الاجتماعي الذي جعلته الشريعة قاعدة نظامه الاجتماعي .
ولقد كان اليتيم يعاني من الضياع والتشرد والاستغلال في المجتمع الجاهلي ، حتى جاء دين الإسلام فأنقذه من هذا الضياع ورتب له حقوقاً يتعين صيانتها ،
ومن حقوقه حفظ أمواله وتنميتها ، وعدم قربانها إلا بما يصلحها ،
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم ؛ حتى يسلمه له كاملاً نامياً ،
وقوله تعالى : "حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ" ليس غاية للنهي ،
إذ ليس المعنى إذا بلغ اليتيم سن الرشد فاقربوا ماله ، إنما المعنى أنهاكم – أيها الأولياء والأوصياء – عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أنفع له ،
وعليكم أن تستمروا على ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده ، فإذ بلغ رشده فسلموا إليه ماله ليتصرف فيه التصرف السليم .
فالنهي في الآية ليس عن أكل مال اليتيم ، بل عن مجرد القرب منه ،
وفي ظل قاعدة التكافل الوارفة الظلال ، عني الإسلام باليتيم وأمواله ؛ فدعانا إلى حسن استثمار أموال اليتيم للإنفاق من عائدها عليه ، قال تعالى :
"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا"
النساء ﴿٥﴾
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
"من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"
رواه الدارقطني والبيهقي
ويتعين حسن تربية اليتيم وتعليمه وتدريبه على إدارة أمواله قبل دفعها إليه ، قال تعالى :
"وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا"
النساء ﴿٦﴾
فعلى الولي أن يسلم المال لليتيم نامياً كاملاً عند بلوغه أشده ، واكتمال قوته البدنية والعقلية ؛
ليكون قادراً على حفظ ماله ، ويحسن القيام عليه، وبذلك يكون اليتيم قد استوفى حقه ، وحصل على ماله كاملاً ،
مع ما تحقق له من الكسب والربح نتيجة حسن تصرف الولي وقيامه على المال بما يصلحه ،
وبهذا التصرف الحكيم ، لا يكون اليتيم هو من فقد أبويه أو أحدهما في المجتمع المسلم الرشيد ؛
لأن المجتمع الإيماني ، اليتيم فيه مكفول الحق ، فقد أباه فكان له من المؤمنين آباء ، وفقد أمه فكان له من المؤمنات أمهات .
إنما اليتيم من لم يحظ بكفالة أبيه ، وينعم برعايته ، ويستفيد من مصاحبته والحوار معه ، ولم ينعم بحنان أمه وشفقتها وعطفها :
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أباً مشغولا
أحمد شوقي
وقد أولت شريعة الإسلام عنايتها بالأيتام ، من تدبير شؤونهم ، ورعاية مصالحهم ،
وليس أدل على ذلك مما ذكره الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، حيث تحدث عن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم ،
كلها تدعوا إلى رعايتهم ، والحفاظ على أموالهم ، والسهر على مصالحهم ،
بل وتشدد النكير على من تسول له نفسه أن يعتدي على أموالهم ، أو يأكل شيئاً من حقوقهم ، قال تعالى :
"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"
النساء ﴿١٠﴾
الوصية السابعة :
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"
وهذه المبادلات التجارية بين الناس ، في حدود الطاقة ، وحسن التصرف والإنصاف ، وسياق الوصايا في الآيات يربطها بالعقيدة ، والموصي والآمر هو الله جل وعلا ،
والمعنى : وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون ، أو لغيركم فيما تبيعون ،
فهو أمر من الله تعالى لعباده بإقامة العدل حال التعامل :
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"
الإسراء ﴿٣٥﴾
فيتعين أن يعطى صاحب الحق حقه من غير نقص ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير زيادة .
وهذه الوصية تمثل مبدأ العدل في التعامل، والتعادل بين صاحب الحق ومن له الحق ، وحال الناس لا تستقيم إلا بالتعامل وتبادل المنافع .
والكيل والوزن هما من أظهر الوسائل في ذلك ، فلابد أن يكونا منضبطين وقائمين على القسط والعدل ،
وقوله تعالى : "لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"، جاءت عقب الأمر بايفاء الكيل والوزن بالعدل ،
ولكن بقدر الطاقة للدلالة على الترخيص فيما خرج عن الوسع والقدرة ؛ لبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج ؛
وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة والتبادل ، بل الشأن فيه أن يقبل اليسير من الغبن في جانب البائع ، أو في جانب المشتري ،
وهذه الوصية تجمع في ثناياها بين الدقة والسماحة ، وبين الضبط ورفع الحرج .
رد: الوصايا العشر في سورة الأنعام !!
مششششكور يعطيك الع ـآفيه
Design-sasuke- ღ عضو ღ v I p
- الْعُمْر : 32
الجنس :
الْمَشِارَكِات : 8432
بلدي :
الْنِّقَاط : 29435
السٌّمعَة : 0
مواضيع مماثلة
» كـيف نستثمر العشر الأواخر من رمضان
» الاماكن العشر التي لا تجوز الصلاة فيها
» فضل سورة البقرهـ....
» فضل سورة البقرة
» فضل سورة البقرة
» الاماكن العشر التي لا تجوز الصلاة فيها
» فضل سورة البقرهـ....
» فضل سورة البقرة
» فضل سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى